انه الفجر لقد بدأت الشمس ترسم خيوطها الذهبية فى السماء،ومعها كانت تتثائب فى خمول وهى تقاوم ذلك الشعور اللذيذ بالدفئ..
تنظر إلى منظر الفجر الساحر فلا ترى سوى بداية ليوم جديد ملئ بالمشقة ...
سوف تبدأ مسيرتهاالأبدية فى الحياة- أو الهم- كما تحب ان تسميها والتى لا تستريح منها إلا فى المساء....
هى... ربة منزل بسيطة جدا ...عادية جدا ...من ذلك الطراز المصرى الذى يسخط من الحياة التى لم تنصفها ، كان من الممكن ان تكون شيئا مختلفا تماما لو لم تعطها امها لأول عريس يقابلها ... ثم تنام وهى راضية عن نفسها وحياتها وعن العالم كله بعد ان ترى ابنائها (هؤلاء المفاجيع ) كما تحب ان تسميهم يأكلون طعامها ويملؤن البيت صخبا .... حقا هم من يعطون لحياتها معنى .... فتحمد الله عليهم وتنام وهى تعشق حياتها.....
لكنها تبدأ الآن فى ترتيب مهام هذا اليوم العصيب ... الغسيل اولا ...ثم المطبخ ...ثم... ثم ..مهام لا تنتهى ابدا ...
هنا خرج من الغرفة احد هؤلاء الذين يجعلون لحياتها معنى ..
لماذا هو يبتسم هكذا .... (ربنا يسعده كمان) ...لكن الأحمق بدأ يغنى وبصوط عالى ... ماذا حدث ..؟! هل جن .. سوف يستيقظ ابوه ويقوم بثورة ..عليها وليس عليه لأنها لم تحسن تربيته ... هكذا هى اساس كل المشاكل.... لكن ماذا حل بالفتى ..؟!هذا ليس موعد امتحانات فماذا اذن ..؟!
ظلت تراقبه بذهول ... حاولت ان تسكته لكنه بادرها بقبلة على جبينها .. فسكتت وراقبته وهو يخرج من باب المنزل ...
بداخلها شعرت بالسعادة ... إن ابنها سعيد ..جزء من كيانها سعيد .... ماذا تريد غير ذلك ؟!
لكن شعورها هذا لم يستمر طويلا .. فقد تبدد بعد ان سمعت ذلك الصوت الأجش الذى انهكته سنون من التدخين يناديها من الداخل ...لقد اصطدم بشئ ما على الأرض فزاد ذلك من عصبيته ..... حقا ان يوما عصيبا ينتظرها...
***********************
يجلس امام باب العمارة.... الجو شديد البرودة ...حتى ان الهواء نفسه قد اوشك على التجمد .... يرتدى ذلك الجاكيت الصوفى ورغم ذلك يخترق البرد عظامه ذاتها ويفتتها ..
هو يجلس هنا وهؤلاء الأوغاد – سكان العمارة – ينعمون بالدفئ .... وقريبا ستستدعيه احداهن ليشترى لها شئ ما لأنها تخاف على نفسها البرد...اللعنة عليهم جميعا ...اللعنة على هذا البرد القاسى ..اللعنة على اى شخص يطلب منه اى شئ فى هذا الجو اللعين ...
صعيدى جدا وقد اقسم ألا يجيب نداء احد هذا اليوم ...ولا حتى زوجته...
(عم عوض...) سمع اسمه فانتفض من مكانه وهرع الى ذلك ( الأستاذ ) كما يدعوه ..... لقد نسى قسمه الذى اقسمه منذ ثوان ، حقا هؤلاء الصعايدة متحجرى الرؤس يصعب إثنائهم عن اى شئ يريدونه ...
وقف مع هذا المخبول الذى ظل يدعوه بالأستاذ رغم كل شئ...... والذى اخذ يحدثه عن الجو الرائع .... رائع..؟! إن هذا الجو لجدير بالملاحم الأغريقية - لو ان (عم عوض) يعرف عنها شئ - لكنه وافقه على كل حال وهو يرتعد من البرد ...
تركه ذلك الأستاذ وخرج وهو يغنى شيئا ما عن جمال الحياة ....
عاد عم عوض الى مكانه بعد ان قال شيئا ما عن (اصحاب العقول) وقد اقسم الايقوم ثانية لأى شخص مهما كان .. وماكاد يجلس حتى سمع زوجته تنادى عليه .. فهب مسرعا إليها ....حقا انه رجل يعرف كيف يبر بقسمه ...
**********************
(هوه يوم باين من اوله .....) قالها مع ارتطام اول قطرة من المطر بزجاج سيارته الأجرة ...
لم يكن يومه على ما يرام ....بداية من تحميل السيارة بالركاب والذى استغرق قرابة الساعة ....ومرورا بذلك الراكب الذى يرفض ان يدفع ( الربع جنيه ) الزيادة فى الأجرة ويصر انه لن يدفع مليما واحد وانه اذا اراد منه ان يدفع فليذهب معه إلى الشرطة ....
إن بائعى ( الفجل ) قد زادوا من ثمنه لأن سعر البترول قد ارتفع – ولا ندرى ما هى العلاقة بين سعر الفجل والبترول – فلماذا لا يزيد هو من اجرة السيارة ؟! لذلك كاد ان يشترك مع الراكب فى شجار دامى من اجل معركة ( الربع جنيه) ...
اما ما زاد الحياة تعقيدا تلك المرأة البدينة التى ركبت الى جواره ... لا ان كلمة بدينة لا توفيها حقها ، لكم ان تتخيلوا انها جلست فى مقعد ين كاملين ورغم ذلك بدى وكأن المكان احتله خمسة رجال ...
كانت ترمقه بتلك النظرات التى يعرفها بحكم خبرته ...
ان الواحدة من أولائك النساء تظن نغسها ملكة جمال ( الفـلبين ) مع انها لا تصلح ملكة جمال ( لكفر ابو حتاتة )..
وبعد ذلك يأتى المطر ليزيد الحياة تعقيدا
الأمطار غزيرة ورغم انهم مازالوا فى وقت الصباح .. فقد جعلت الغيوم الدنيا وكأنها تستعد لأستقبال نهاية العالم.. أنه بالكاد يرى الطريق ...وفجأة ومن دون اى مقدمات ... يظهر هذا الشخص امام السيارة من العدم ليعبر الطريق امامه ....
كادت دماء هذا المجنون ان تلون الطريق لولا خبرة السائق ... التفت اليه السائق ليرى ماذا اصابه... فوجد هذا الشخص الذى كان يسير تحت المطر يبتسم له فى هدوء اقرب الى البلاهة ويكمل طريقه وهو يغنى ..اراد ان ينزل ليفرغ ما به من غضب فيه لكنه قدر ان هذا الفتى مخبول تماما ... ومن غير الحكمة التشاجر معه ... لذلك اكتفى بان وجه له مجموعة منتقاه من الشتائم .... ثم نظر الى المرأة البدينة بجواره وأكمل الطريق وهو يغمغم
( شغلانة تقصر العمر.......... )
*********************
كانت تجلس وحدها فى كافيتيريا الكلية الخالية من الطلبة تقريبا ..... تحاول ان تفكر فى هدوء ... اشياء كثيرة تشغلها ...تريد ان تبعدها عن عقلها الآن ... لقد اقتربت الأمتحانات وهى لم تخط قلما فى كتبها حتى الآن ...
كانت هى اجتماعية ..... مرحة... يحبها الجميع ... لم تكن ممن يكرهون الكلية لكنها كانت تعشق الحياة داخلها اكثر من دراستها ...
من الخارج سمعت من يغنى لفيروز ... وبصوت عالى ...من المخبول الذى يقف تحت المطر فى مثل هذا الجو ليغنى ..؟! لكنها كانت تعشق فيروز حقا فلم تملك إلا ان تغنى معه بصوت خفيض ...ان هذا الشخص بالتأكيد مجنون .. ولكنه ايضا وبالتأكيد ...سعيد ..
نظرت من خلف الزجاج فوجدته واقف هناك ... مبتل تماما ... لايبالى بالبرد والمطر ...يغنى وهو مبتسم ... لا تدرى لماذا ابتسمت ..؟! ..لماذا خرجت الى ذهنها افكار كثيرة .. رقيقة ...عذبة كانت تحاول ان تبعدها عنها ...؟
مهذب ..... رقيق ...... مرح جدا .. اجتماعى جدا ... لاتنكر انها تميل اليه ولكن ...ليس هذا بالوقت المناسب للتفكير بهذه الأشياء... وعادت مرة اخرى لتنغمس بين اوراقها محاولة تجاهل تلك الأفكار....
**********************
سعيد ..... لا يدرى لماذا هو سعيد ... ولايريد ان يعرف ما هو السبب ....يمشى تحت المطر ...لا يبالى بتلك السيارة التى كادت تقتله ... يريد ان يغنى .. يحب الشتاء ...يحب المطر ...يحب الحياة ... يحب ( عم عوض ) البواب الصعيدى ..وهذا فى حد ذاته يبدو غريبا بعض الشئ ....
يقف فى وسط الكلية يغنى ...لفيروز ... كم يعشقها ...لماذا لم تكن بهذا الجمال من قبل .....
هناك من داخل الكافيتيريا يراها ..... غارقة فى التفكير فى شئ ما ... لقد نظرت له وابتسمت ... تالله ما اعذبها من ابتسامة ...
دخل اليها جلس الى مائدتها ... تنظر اليه فى خجل ... يبدو انه جاء فى الوقت غير المناسب ... هم ان يرحل لولا انها سألته ( لماذا انت سعيد هكذا ..؟!) سكت لبرهة ونظر الى عينيها .... ثم قال ( فى الحقيقة لم اكن اعرف ...لم افكر فى ذلك ... لكنى اعرف الآن ) ......
ببساطة سعيد لأنى ..... احبك...
تمت
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق